العمل الروائي لدى صبحي فحماوي مقياس إبداعي مشروع
أ. د. عبد المجيد صديقي
ما من شك في أن قارئ الأعمال الروائية للأديب والروائي العربي الفلسطيني الأردني صبحي فحماوي، يجدها جميعها تعبر تعبيرا واضحا عن موقف مؤلفها المحدد من الواقع الاجتماعي العربي الفلسطيني، مثلما تعبر عن محاولاته الدائمة في تجاوز” الانعكاس الآلي” لهذا الواقع العربي المعيش. فيطرح أمامنا عتبة صهر الواقع السياسي الفلسطيني في الواقع الاجتماعي العربي العام، كما يحرص على دفعه إلى ملامسة أسلوب فني جديد في الكتابة السردية العربية المعاصرة، يتمثل في معالجة مواد سردية ذات موضوعات/ تيمات واقعية من خلال عمليات تجريب طرائق تعبيرية جديدة، وتقنيات أسلوبية سردية متفردة في المشهد الروائي العربي، وهي طرائق وتقنيات أسلوبية تمتح من مرجعيات معرفية متعددة ومتضافرة في تشييد عوالمها الروائية، فلا تكتفي بكتابة الواقع أو إعادة صياغته، بل تنخرط في حياكته حياكة جديدة.
ولأنها كذلك، فهي كتابة روائية تتسم، في اعتقادي، بأمرين يمنحانها معا هذا الوصف، أولهما، عرضها أزمات الوجود العربي المعاصر، وفي صلبها” القضية الفلسطينية”، والتعبير من خلالها عن علاقة الفلسطيني المهجر من أرضه والذي لا ينفك تطلعا العودة إليها، وثانيهما، تمتعها بقدر كبير من رؤية كاتبها الخلاقة للواقع العربي على عدة مستويات، فلا تصير النصوص الروائية عنده إلى نقل حرفي لواقع يبني” عبر تركيب حتمي لانعكاساته، ومهمة الأسلوب أن يقوم فقط بهذه العملية”، بل تستهدف ـ أي النصوص الروائية عند صبحي فحماوي ـ الكشف عن واقع فلسطيني جديد مجهول ولامرئي، واقع يتطابق فيه الحلم والواقع في حق الفلسطيني المهجر من أرضه في مقاومة المحتل، وفي حقه في عودته إليها، مثلما تحرص على نقل قشعريرة هذا التطابق إلى القارئ.
تشمل دراستي هذه سبع روايات صبحي فحماوي، هي:( قصة عشق كنعانية ـ أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية ـ هاني بعل الكنعاني ـ الأرملة السوداء ـ الحب في زمن العولمة ـ حدائق شائكة)، وهي لا تشكل حلقة مترابطة تتتبع تطور التجربة الروائية لدى صبحي فحماوي، بقدر ماهي دراسات تحليلية تطرح فرضيات لتذوق وقراءة ستة من نصوصه الروائية من خلال ملامسة ثنائية” الواقع والأسطورة” في فقراتها.
ولأن فعل القراءة، وهو يتتبع المعنى ويرصد الفروق الإبداعية الدقيقة بين الروائيين، يثير عند القارئ تساؤلات عدة تتصل بمعايير أو خصائص الإبداع الروائي عند صبحي فحماوي؟ فيتساءل ـ تمثيلا لا حصرا ـ عن مكمن سمات الكتابة الروائية عنده؟. فهل تكمن هذه السمات في عدد الأعمال التي أصدر؟ أو هل يتم تحديد قيمة العمل الروائي عنده من خلال تحديد وزن هذا العمل بالنسبة لأعماله الروائية؟ أم هل يتم تحديده هذه القيمة بالنسبة لثقلها بين أعمال غيره من الروائيين العرب؟ وكذلك، هل تبرز هذه الخصائص في الكيفية التي يعالج بها صبحي فحماوي الموضوعات والقضايا التي يطرح؟ أو فيهما معا؟. فهو روائي عربي فلسطيني أردني مجتهد، أصدر أربع عشرة رواية، كما مر بنا. مثلما أنه لا يهتم كثيرا أو يلتفت إلى كمية ما أنتج من أعمال روائية، بقدر ما يهتم بالتنوع في الوحدة اهتمامه بالوحدة في التنوع، وأيضا، بسعيه الحثيث نحو نشر الإبداع الذي جاء به إلى العالم في أعمال روائية وإبداعية متنوعة.
إضافة إلى ذلك، يبدو في اعتقادي، أنه إذا كان النظر إلى وزن العمل الروائي وإلى قيمته معا، لا بالنسبة لأعمال صبحي فحماوي الروائية بصفة منفردة، وإنما بالنسبة لأعمال وإنتاجات روائية أخرى لمبدعين روائيين عرب، يعد” مقياسا إبداعيا مشروعا”. ذلك بأن، طرح الروائي رؤيته للواقع ولحركته، وطرحه، من ثم، للأدوات الناجعة التي تعين القارئ على فهم هذا الواقع وعلى تفسيره وتحليله، في ظل غموض الزمن الراهن وتمزق المبادئ وتفتت القيم وحيرة الذات الفردية وتشتت الذات الجماعية، لا يهدف إلى إثارة الأسئلة الفنية لدى القارئ التي تهز وعيه الجمالي ودفعه ـ تبعا لذلك ـ إلى إعادة النظر والتفكير في ما يقرأ وفقط، وإنما يكشف، أيضا، عن أصالة الروائي وعن براعته في تجسيد رؤيته الفنية للعالم.
إن الفن الروائي في جملته فن سردي ينزع نحو تجريب واستشراف عوالم جديدة عبر عمليات التداخل التي يقيمها العالم الروائي مع أنواع السرد التاريخي والديني
والشعبي والعجائبي، ومن خلال تجريب واستثمار التقنيات السردية والمستويات اللغوية المستحدثة. كما أنه فن يبدع” في ابتكار طرائقه وأساليبه الجديدة، وفي الإفادة من أنماط التعبير السردي المختلفة. وعلى هذا الطريق سارت الرواية العربية الحديثة، وصارت تمثل” كبرى تجارب الإبداع العربي في العصور الحديثة، وصانعة الوعي التاريخي بمسيرته، وأكبر مظهر لاشتباكاته الخلاقة بحركة الوجود”.
فقد تولد عن نكسة يونيو/ حزيران 1967، واقع عربي مفعم بالإحباط والحزن والإهانة، نكسة خرج الإنسان العربي منها” مدمى العقل” ومكسور القلب، علاوة عن ما
أحدثته من شرخ عميق في كل البنى المكونة” للواقع العربي آنذاك: السياسية، والإجتماعية، والثقافية، فأنتجت بذلك تحولات مثيرة في الأدب العربي الحديث. كان من أهمها البحث عن صيغ تعبيرية وأشكال جمالية قادرة على استيعاب ذلك الشرخ والاستجابة لحركة الواقع، وقبل ذلك كله مساءلة العقل العربي عن أسباب الهزيمة. ولم يكد النصف الأول من عقد السبعينات يرمم ما أحدثته الهزيمة من تصدع في هذا العقل، حتى عصفت به أحداث جديدة قوضت، أو كادت ما استجمعه من قوة تمكنه من مواجهة هذا الخراب المستمر حوله، فكانت اتفاقات السلام الأولى التي ما لبثت أن تناسلت على نحو مثير مع بداية عقد التسعينات التي يمثل مفصلا تاريخيا جديدا، وشديد الحساسية، في الراهن العربي، وقد رافق ذلك كله تحولات في الخطاب الثقافي، ولاسيما بعد غزو العراق للكويت في السنة الأولى من ذلك العقد”.
وتبعا لذلك، ففي أتون هذا الواقع المتلاطم الأمواج، وجد الأديب صبحي فحماوي نفسه، شأنه في ذلك شأن الأدباء والمثقفين العرب جميعهم، أمام” تمزق الوحدة
الفلسطينية، التي كانت، رغم تعدد الفصائل من منظمة فتح إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، تمثل وحدة فلسطين، فلم يكن الصراع السياسي والإيديولوجي بين الفلسطينيين والفلسطينيين، بل كان صراعا استطاع العدو الإسرائيلي أن يخترقه، في تحقيق اختلاف جذري بين الفصائل حول تحرير الأرض الفلسطينية أولا، أو قيام دولة فلسطين التي عليها أن تحرر الأرض عن طريق المفاوضات، ومن ثم، جاءت معاهدة أسلو، التي وقعها ياسرعرفات مع العدو الاسرائيلي، بحضور الرئيس الأمريكي الذي كان يحمل صفة راع لاتفاقية السلام”، وصفة الراعي الأول للتوظيف الإسرائيلي الصهيوني لأساطير مبتدعة قصد تبرير آليات اختلاقه وإيجاده كيانا محتلا وغاصبا لأرض فلسطين، وقصد التغطية عن سياساته الإجرامية تجاه الفلسطينيين.
وفي سياق رفع القناع المزيف الذي يتوارى خلفه كيان الاحتلال والكشف، من ثم، عن وجه الصهيونية الاسرائيلية البشع، يجدر بنا أن نشير إلى التحليل الذي قدمه المفكر الفرنسي” روجي جارودي” في مؤلفه”” الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، والذي فند فيه ما يسمى “البدعة الصهيونية” التي استبدلت إله إسرائيل بدولة إسرائيل، نافية بذلك، اعتمادا على القومية القبلية السائدة، العقيدة الكونية لكبار أنبياء اليهود”.
بدوره كذلك، حمل الروائي العربي صبحي فحماوي على عاتقه، مهمة تفنيد هذه” البدعة الصهيونية” ودحض ادعاءاتها الزائفة، تسنده في ذلك هموم وطنه فلسطين ومعاناة أهله مع احتلال الصهاينة ومع ظلمهم واستبدادهم. لذا، نجده يكتب ويبدع ويناضل ويروم” إيجاد الحلول المناسبة للخروج من هذه الأزمات، واستطاع بهذا أن يصور الواقع ويجسده، حيث تحدث عن آلام الحرمان ومشاق البؤس في المجتمع، وتحدث عن نكبة فلسطين وما تلاها من تشرد وضياع”، وما رافقها من محاولات طمس ومحو وتزييف التاريخ الفلسطيني من طرف المحتل الصهيوني الغاصب الذي يبتدع” الحكايات الأسطورية” لتبرير مخططاته الإجرامية في استيطان أرض فلسطين بعد إبادة سكانها الأصليين وترحيل من تبقى منهم من أرضهم، كما تحدث عن حق الفلسطينيين في مقاومة المحتل الإسرائيلي لأرضهم فلسطين وطرده منها، وعن حقهم، كذلك، في تحقيق حلمهم بالعودة إلى أحضانها.
و صبحي فحماوي، روائي وقاص ومسرحي وناقد، ومهندس حدائق، فلسطيني المنشأ، أردني الهوية، فاعل ثقافي متعدد، معد ومقدم برامج تلفزيونية، مهندس حدائق، عضو