لمناسبة الذكرى السابعة لرحيل المفكر العربي الكبير
محمد عابد الجابري
نعيد نشر الحوار الذي جرى بينه وبين المفكر العروبي الدكتور
علاء الدين الأعرجي
مقتطفات من أقوال الجابري في هذا الحوار:
– إسرائيل ستنتهي بعد خمسة عقود.
– الوطن العربي في خير، وسيلحق قريبا بالغرب .
– العرب سيحققون وحدتهم المنشودة حالما “تشبع” البلدان العربية من قطريتها الضيقة.
– لم يتغير شيء يذكر في العالم العربي منذ القرون الوسطى سوى الوعي.
– الغرب هو الذي أفسد في الماضي مشروع الإصلاح الليبرالي، الذي يدعو إليه اليوم، في البلدان العربية.
– لا أخاف على العالم العربي من الانهيار، لأن المسافة بينه وبين الانهيار ليست بعيدة، أما الانهيار الحقيقي فهو الذي قد يلحق الغرب، لأنه شديد التقدم وشديد الرقي وبالتالي فإن انهياره سيكون له دوي كبير.
– علاقتنا مع الآخر هي علاقة العبد بالسيد.
– خذ الحكمة من أفواه الحمقى: أوربا صُدمت بقول “أحمدي نجاد”: امنحوا اليهود دولة في أوربا، إن أردتم التكفير عن سيئاتكم.
– نعم، ما زال عرب الخليج محتفظين ببداوتهم. فهم تجار وليسوا صناَّعا.
– هذا “المؤتمر القومي العربي” يشبه المؤتمر اليهودي الصهيوني الذي تأسس في “بازل” منذ قرن ونيف (في عام 1898). فهذا المؤتمر الأخير دعا إلى إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين، وحقق بعض أهدافه نسبيا، والمؤتمر القومي العربي ربما سيحقق أهدافه في تحقيق الوحدة العربية بعد مرور مدة قد تستغرق قرنا …
– لم يحصل في التاريخ البشري أن بلغت مقاومة العدوان الخارجي هذا الشكل من التضحية والفداء، بحيث يتحول الإنسان ذاته إلى قنبلة بشرية.
– قلتُ قبل سنوات أن إسرائيل ستفشل في تحقيق حلمها في إنشاء دولتها على الأراضي الممتدة من النيل إلى الفرات، بعد عشر سنوات ، وهذا ما حصل فعلاً الآن. وإسرائيل عاجزة عن تحقيق أبسط متطلبات وجودها المتمثل بأمنها.
– يجب أن لا نتغنى بسقوط الغرب والحضارة الغربية، هناك الكثير ممن يتمنون هذا ويحولون التمني إلى تنبؤ بل إلى واقع.
– . يمكن أن نحقق اليوم الثورة بواسطة امتلاك العلم والمعرفة. والمؤشرات على أننا بدأنا في ولوج هذا الطريق واضحة، لا تحتاج إلى كد الذهن من أجل إبرازها.
– التاريخ يصنعه الحمقى أحيانا من أمثال بوش والمحافظين الجدد.
مقدمة
لئن يوصف الحديث بين الأصدقاء والأحباب بأنه “حديث ذو شجون”، ونعني به حديثا مشوِّقاً، أكثر من أنه ذو “شجون” بالفعل، أي “أحزان”، فقد كان حديثي مع الجابري أكثر من ذلك بكثير. ولعل أقرب ما يمكن أن يوصف به هو أنه كان حديثاً ذا شجون وفنون وعيون، وآذان مرهفة، وفكر متعطش للفهم و التفهم، من جانب، وسيلٍ من الفكر المتدفقِ والتحليلِ الدقيقِ من الجانب الآخر. فكاتب هذه السطور لم يقابل الجابري كصحافي أو إعلامي يوجه إليه أسئلة محددة سلفاً، ويكتب أجوبته فينقلها إلى جمهوره، بل قابله بصفته إنسانا ً قوميا ً عربيا ً تقدميا ً، منهمكا ً بصرامة وعمق، بهموم هذه الأمة ومستقبلها ومصيرها، منذ كان شابا. وإذ قارب خريف عمره، في الثمانينيات من القرن الماضي، اكتشف الجابري، فحرص على تتبع أعماله باهتمام شديد ووعي ناقد، بل أصبح يعتبره من أهم المفكرين العرب القلائل الذين يستحقون العناية والدراسة والفهم. خاصة لأنه ربما يُعتبر أول مفكر عربي عالج مسألة تخلفنا الحضاري من خلال معالجة “العقل العربي” ذاته. فقد نقد هذا العقل في رباعيته المشهورة”نقد العقل العربي”، التي تتألف من أربعة مجلدات، وذلك بعد أن أغنى المكتبة العربية بقرابة ثلاثين مؤلفاً. وهكذا حرص كاتب هذه السطور على اعتبار هذا المفكر من أهم مراجعه الأساسية حينما كتب مؤلفه الأخير الذي صدرت طبعته الثانية مؤخراً تحت عنوان “العقل الفاعل والعقل المنفعل وأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي؛الأمة العربية بين النهضة والانقراض “. علما أن بعض الأفكار والنظريات الواردة في هذا الكتاب لا تتفق بالضرورة مع نظريات الجابري، بل قد تتقاطع وتتعارض معها، وربما تكملها وتعدلها أحيانا.
وفي هذا الكتاب لاحظ المؤلف، بين أمور أخرى كثيرة، أن المفكر الجابري قد انتبه إلى نقطة جديرة بالاعتبار مفادها أن الكـُتاب والمفكرين العرب، الذين سبقوه، تعرضوا لمعالجة مختلف أسباب فشلنا في تحقيق نهضتنا بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، ولكن ميدانا واحدا لم يتطرق إليه أحد منهم ، بشكل جدي وصارم، ألا وهو ميدان “العقل العربي ذاته” (الخطاب العربي المعاصر، ط4، ص8). فإن كانت أداة النقد ومسطرة القياس، عاطلة أو مُعـَطـَّـلـَة، لسبب أو آخر، فإن نتائج التمحيص والتشخيص لابد أن تكون ناقصة أو فاشلة. لذلك فشلوا في تحقيق النهضة المنشودة.
ومن هذه المنطلق حرص كاتب هذه السطور، ليس فقط على تتبع كتابات الجابري بتفحص وإمعان، بل أخذ يمعن النظر أيضا بكل ما يكتشفه من كتابات ناقديه و”منتقديه” ومهاجميه. ومع احترامه لبعض هذه النقود (جمع نقد)، وبصرف النظر الآن عن مدى أهمية البعض الآخر، وسواء كانت عادلة أو ظالمة، فإن هذا الكمّ الهائل من المقالات والمؤلفات التي صدرت في نقد أعماله، سلبا أو إيجابا، قد يدل، بين أمور أخرى، على كثرة الأعصاب الحساسة، بل المتوترة، التي أصابها أو لمسها الجابري، من جهة، أو ربما يشكل بادرة صحة أو خِصب، ما تزال كامنة في الفكر العربي، استطاع مفكرنا المتميز أن يفجـِّرها، من جهة أخرى (انظر مقالنا الصادر في صحيفة القدس العربي في 5/ 5/2006 ،تحت عنوان” بمناسبة صدور كتاب “التراث والنهضة، قراءات في أعمال الجابري”) .
وانطلاقا من هذه الرفقة الفكرية الحميمة، التي تربو على العقدين، استبشرتُ جدا بالدعوة التي تلقيتها من الأخ الكريم الأستاذ معن بشور، أمين عام المؤتمر القومي العربي، لحضور الدورة السابعة عشرة للمؤتمر(5-8/5/2006)، خاصة لأنها عقدت في الدار البيضاء، المدينة التي يقيم بها المفكر الجابري، الذي كنت أتلهف للقائه، لاسيما وأنه عضو في هذا المؤتمر. وبهذه المناسبة لابد أن أتقدم بالشكر الجزيل لمفكرنا الجليل لتكريس هذا الوقت الطويل للقائي على انفراد، على الرغم من ضيق وقته وظروفه الشخصية الحرجة، في حين أنه اعتذر، لهذا السبب، عن القيام بأي نشاط مكرس للمؤتمر، بما فيه إلقاء محاضرة، أسوة بالمرة السابقة التي انعقد فيها المؤتمر في الرباط (1997). كما أشكر وأقدر بإخلاص الجهود التي قام بها صديقنا المشترك الأستاذ الفاضل عبد القادر الحضري، الذي يعود إليه الفضل في ترتيب هذين اللقائين(الأول في 5/5،والثاني في 7/5/2006).
* * *
وفي هذا النص سأرمز إلى الأستاذ الجابري بحرف “ج”، وإلى كاتب هذه السطور بحرف” أ “. علما أنني سأشير إلى بعض النقاط القليلة التي توسعت قليلا في شرحها في هذا النص، توضيحا للقارئ، أو وضعتها بين قوسين. علما أن كثيراً من النقاط التي طرحها المفكر الجابري بحاجة إلى توضيح وتعقيب أو رد ونقد، وهي أمور امتنعت عن القيام بها في هذا اللقاء عمدا،ً بسبب محدودية الوقت، وحرصي على استثماره إلى أقصى حد ممكن لنأخذ من أستاذنا الجابري أكبر قدر ممكن من فكر ورأي، مع احتفاظي بحقوقي في التعليق والنقد، الذي قد أتمكن أن أقوم بهما في مناسبات أخرى.
أهم ما جاء في اللقاء
كنت قد وجهت إلى الدكتور الجابري سؤالاُ محدداُ، في جلسة مختصرة سابقة، جرت على هامش افتتاح دورة المؤتمر القومي العربي في الدار البيضاء، المغرب في 5/5/2006 . وينصب السؤال على استشراف مستقبل الأمة العربية ومصيرها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأوضاع المتردية الراهنة،(في ذلك الوقت) على صعيد الواقع المحسوس والمُعاش، وفي ضوء ما ذكره، على صعيد التنظير التاريخي، المؤرخ والمفكر البريطاني المعروف أرنولد توينبي Arnold J.Toynbee، في سياق تحليله وتصنيفه للحضارات، في كتابه الموسوعي”دراسة للتاريخStudy of History”(13مجلدا)، التي حصرها بإحدى وعشرين حضارة، انقرض منها 14 حضارة، وبقيت الآن ست حضارات في طريقها إلى الانقراض، منها الحضارة الإسلامية وبضمنها العربية طبعا . . .!! وقد فضَّلت التركيز على هذا السؤال، مع أنني كنت أحمل في حافظة ذهني سيلاً من محاور الحوار الأخرى، تتعلق بعضها بالمقارنة بين نظرياته ونظرياتي، لأنني اعتقدت أن هذا السؤال هو الأهم في نظري، انطلاقاُ من انشغالي الأشد بمصير هذه الأمة، وحرصي عليها، مع أخذي بنظر الاعتبار حدود الوقت المتاح للحوار.
وفي بداية الجلسة الثانية، التي عقدت في 7/5/2006، أعدت طرح نفس الموضوع موضحاً بالقول:( أكرر أن ألف، تعني الأعرجي ، وجيم، تعني الجابري).
أ- في لقائنا الأول، الذي كان قصيرا ومرتجلا، إلى حد بعيد، حين سألتك عن استشرافك مصير هذه الأمة المنكوبة، وأنا أقول منكوبة ليس بالآخر فحسب، بل منكوبة بأهلها أيضا، فهمت من إجابتك، تلك الإجابة التي اعتبرتها غير شافية، آن ذاك، أنك كنت متفائلا، أكثر مني على الأقل، لو صح فهمي. فرجائي أن توضح وجهة نظرك اكثر في هذه المسألة الخطيرة.
ج- عندما يواجه الإنسان الواقع، وأنا هنا أنطلق بوصفي باحثا بالدرجة الأولى – باحث له علاقة بتاريخ الفكر وبالتطورات السياسية- لا بد له من أن ينتهي إلى أن الانطلاق من هذه الزاوية، يجعل التفاؤل والتشاؤم بدون معنى. والذي يجعلنا حبيسي هذه الثنائية، هو تأثير الإعلام الذي يضغط علينا بشدة ويقدم لنا فيضا من التفاصيل فيعرقل بذلك الفكر. فعندما نسمع مثلا عن نكبة دير ياسين، نكون إزاء حدث وقع وانتهى، منذ زمن بعيد نسبيا، لكن عندما نسمع اليوم عن الأحداث التي تقع في العراق أو في فلسطين ونراها ونعيشها، تأخذ منا الصورة حجما ً كبيراً من الوعي والوجدان، بحيث لا تترك مجالا للفكر. فالعالم اليوم محاط وملفوف بغطاء يتجلى في هذا الإعلام. ولذلك فيجب أن نحسب حسابا لهذا التضخيم الناتج عن هذه الوسائط الإعلامية.
نعم، أوضاعنا في العالم العربي سيئة ما في ذلك شك، لكنها ليست أسوأ من كثير من بلدان إفريقيا. في الماضي القريب كنا نسمع عن غانا التي كان يحكمها نيكروما والتي كانت مرتبطة بالأحلام والرغبة في الخروج من التخلف واللحاق بركب الحضارة، كما نسمع عن بلاد سيكوتوري. وأنا أتذكر أن أول حركة تحريرية في العالم سمعتها وأثرت فيَّ، هي حركة “الماوماو”، و صدى هذه التسمية ما زال إلى اليوم في أذني على أمواج الـ BBC في أواخر الخمسينيات. كانت هذه الحركة بالنسبة لنا هي فيتنام في وقتها. لكن الآن انظر إلى موطن هذه الحركة أي كينيا، إنها لار ليست في الوضع الذي كان يجب أن تكون عليه، مقارنة بالحركة التي انطلقت في مرحلة التحرير. أيضا ماذا نقول عن آسيا نفسها وعن الاتحاد السوفيتي؛ هذه الثورة التي جاءت لتغير التاريخ. سبعون سنة وهي القطب الثاني في العالم كله، بين ليلة وضحاها تغير الوضع مائة بالمائة. لا وجه للمقارنة إذن بين ما حصل لنا من انتكاس في السنوات الماضية وبين ما حصل للسوفييت. بل أكثر من ذلك في أواخر الخمسينيات والستينيات كان عندنا مجموعة نماذج على مستوى الفكر والحركة مثل ماوتسي تونغ في الصين وتيتو في يوغوسلافيا وهذا الأخير كان نموذجا ومثالا؟ فأين يوغوسلافيا اليوم من يوغسلافيا الأمس؟ بالنسبة لنا كان عندنا جمال عبد الناصر وسوكارنو وبن بلة… لكن التاريخ هو هكذا، يستحيل أن يكون خطا مستقيما. التاريخ، كما عبَّر عنه كبار الفلاسفة، يسير في خط لولبي حلزوني. هذا هو التاريخ.
ولكن هنا يجب أن نقف عند مسألة أساسية، وهي أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر. أنا عشت في سوريا في السنوات المتلألئة، أيام الوحدة وزيارة عبد الناصر، لكن وضع سوريا الحقيقي آنذاك، وليس وضع الأحلام ولا الإعلام، وضع الشعب المتميز بالكثير من المشاكل والمعيقات، لا يختلف عما هو عليه الآن. وفي المغرب نلاحظ نفس الشيء إذ نرى الآن عمرانا وتقدما على مستوى المظاهر، مقارنة بما كان عليه الأمر في الخمسينيات، لكن الشعب المغربي في البوادي، وضعيته هي هي، كما كانت قبل مئات السنين. وبالانتقال إلى البادية ننتقل إلى القرون الوسطى، وهذا شأن العالم العربي بأسره. ودليلنا هو أن المحراث الخشبي ما زال إلى اليوم مستعملا في كل أرجاء هذا الوطن. فماذا تغير؟
أ- هذا هو مغزى سؤالي لك، ماذا تغير؟” أقصد عندما سألتك عن استشراف مستقبل أمتنا ومصيرها،أخذت بنظر الاعتبار أن شيئا لم يتغير. وبينما العالم، على صعيد الطرف الآخر، يتغير بسرعة هائلة، ترانا ما نزال نعيش في القرون الوسطى أو قبلها، في كل شيء تقريبا، كما تقول الآن، باستثناء المظاهر السطحية مثل البنايات واستخدام الوسائل الحضارية الحديثة كمستهلكين وليس كمنتجين أو مبدعين.
ج- الذي تغير ويتغير هو الوعي، هو أن نعيش القضية على صعيد الوعي سواء في مرحلة الأحلام أو في مرحلة الآلام! والوعي، على كل حال، وجدان يتغير ومقياس غير ثابت، وهو لا يمثل الحقيقة، فالحقيقة شيء والوعي شيء آخر. لذلك يجب أن تكون هناك مراقبة عقلية للمقارنة والرصد. تصور العراق كما هو اليوم لا كهرباء ولا ماء، ومع ذلك هناك انشغال بقضايا فكرية، وأنا شخصيا تصلني رسائل إليكترونية يوميا تتضمن أسئلة وطلبات لمقالاتي وكتبي، وإخبار عن رسائل جامعية حول مؤلفاتي، وهذا الانشغال يطال كل الجهات بما في ذلك كردستان، وهذه علامة إيجابية لا تنكر.
- المسألة التي تؤرقني وأرى أن علينا مواجهتها ومعالجتها، هذه الفجوة الحضارية القائمة بيننا وبين الآخر التي تزداد في كل لحظة. فلو فرضنا جدلاً أننا نتقدم فإن سرعة تقدمنا لا تتجاوز سرعة مسير الدابة، بينما يتقدم “الآخر” بسرعة الطائرة أو أكثر. هذه الفجوة تتزايد سعة وعمقا كلما تقدم الزمن، وتتضاعف كلما تقدم التاريخ ، مما يؤدي إلى زيادة تحكم الآخر بمقدرات الأمة العربية وسيطرته على مواردها، وبالتالي على كيانها بل ووجودها، كما يحدث فعلا اليوم في مختلف ميادين العلاقة معه. فحتى لو تقدمنا بهذا القدر اليسير الذي تفضلتم بذكره، فسوف لن نستطيع اللحاق بالحضارة الغربية، أي ستظل هذه الفجوة قائمة بل ستتضاعف بمرور الوقت، الأمر الذي أسفر عن هذه النكبات المتوالية التي أصابت الوطن العربي، وقد يؤدي إلى ويلات أكثر هولا ً في المستقبل.
ج- ليس من الضروري أن يقرأ الإنسان الأمور بهذا الشكل. علماء النفس يتحدثون عن الإحساس، والإحساس يكون دائما إحساساً بالفارق، وتضخيم هذا الإحساس يجب أن نرجعه لسببين: أولهما هو أن الغرب قضى أكثر من ثلاث مائة سنة في الحروب الدينية والقومية، بينما انطلقت نهضتنا على أكثر تقدير في بداية القرن التاسع عشر، ونحن لم ننخرط في النهضة وطرح إشكالاتها إلا منذ مائة سنة. أما السبب الثاني، وهو أن الغرب عندما كان يتقاتل أو يحارب أو يتقدم ويبني نهضته لم يكن هناك خصم خارجي يتدخل لإحباطه أو لإعاقته، أما نحن فالخصم الخارجي يجب استحضاره دائما، إنه عنصر أساسي في المعادلة. يجب إذن أن لا نقيس الأمور بنفس المقياس لأن لنا وضعا مختلفا.
ففي المغرب ومصر مثلا: مَن الذي أفسد المشروع الوطني الليبرالي الذي يدعو إليه الجميع الآن؟ إنه الاستعمار، فالحكومة التي كانت قائمة في أواخر الخمسينيات في المغرب، والمخطط الذي وضعته ما بين الستين وأربعة وستين، وكان من المفروض أن يقضي على الأمية وأن يسهم في إعطاء دينامية اقتصادية وتصنيعية قوية… لكن الاستعمار تدخل وأقنع المسؤولين آنذاك بأن هؤلاء الذين يدعون إلى الإصلاح، ليس غرضهم التصنيع، بل هدفهم النهائي هو خلق طبقة عاملة تقوم بالثورة مثل تلك التي وقعت في روسيا، وتسقط بذلك النظام! لقد كانت هناك شبه حرب باردة. هذه الفروق يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وذلك حتى لا يهيمن على رؤانا الإحباط واليأس والتشاؤم. الغرب نفسه له مشاكله، وأنا لاحظت عند زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية أن عدد المتسولين في نيويورك يفوق عددهم في الدار البيضاء، ناهيك عن المشردين الذين يبيتون في الشوارع، فضلا عن السود وذوي الأصول الإسبانية الذين يعيشون في وضعية مزرية لا تعكس مستوى الحضارة الأمريكية. أنا بصراحة لا أخاف على العالم العربي من الانهيار، لأن المسافة بينه وبين الانهيار ليست بعيدة، أما الانهيار الحقيقي فهو الذي قد يلحق الغرب، لأنه شديد التقدم وشديد الرقي وبالتالي فإن انهياره سيكون له دوي كبير.
أ- هل تتصور، إذا، أن هناك علامات ومؤشرات على تدهور الحضارة الغربية،(مستحضرا نظرية أزولد شبنغلرOswald Spengler في كتابه ” تدهور الغرب ” Decline of The West)، وبالتالي هل تعتقد أن الغرب على شفا الانهيار فعلا ؟
ج- يجب أن لا نتغنى بسقوط الغرب! هناك الكثير ممن يتمنون هذا ويحولون التمني إلى تنبؤ وإلى واقع. على كل حال لهم مشاكلهم ولنا مشاكلنا والحياة صراع، وبالنسبة لنا هناك طموح للخروج مما نعرفه من مشاكل ولدينا أفكار تبحث عمن يحققها. ونحن عندما نتحدث مثلا عن العالم العربي أو الوطن العربي نتحدث عن مشروع مستقبلي غير موجود، الموجود الآن هو المغرب والجزائر وتونس ومصر والعراق… فالقطرية هي الواقع الموجود. ومجموع هذه الأقطار عندما تشبع من وطنيتها وقطريتها وتمتلئ منها، آنذاك سيقع التغيير. أنا سُـئلت مرة في أحد بلدان المشرق، لماذا لا يتحد المغرب والجزائر مع أنهما قريبان جغرافيا ومتكاملان اقتصاديا ومتشابهان ثقافيا. فكان جوابي أن الذي يمنعهما من ذلك هو عامل واحد، وهو أن المغاربة شبعوا من الدولة ولهم رغبة في التخلص منها، بينما إخواننا في الجزائر لم يحققوا بعد ذلك الإشباع. فالقطرية واقع وحقيقة لكنها ليست مشروعا مستقبليا، وعندما سيشبع كل منا من هذه القطرية ويتوصل بالملموس إلى أنها استنفدت أغراضها، آنذاك ستطرح فكرة العالم العربي نفسها بقوة، وستفرضها المعطيات الواقعية. على أي حال يجب أن لا نيأس، فأبناؤنا قد يحققون ما نطمح إليه نحن، فهم أفضل منا وظروفهم تسعفهم. فلا يجب أن نقول إننا لا يمكن أن نلحق بالغرب.
- أنا أوافقك أن أولادنا سيكونون أفضل منا، في هذا الميدان، ولكن السؤال هو: هل تتصور أن أولادنا سيلحقون بهذا الركب؟ أقصد إلى أي حد سيتمكن أولادك وأولادي، بل وأحفادنا، من اللحاق بهذا الركب على الصعيد الحضاري، وأنا لا أقصد الجانب الحضاري السطحي، بل الجانب الحضاري العميق، ولاسيما الفكري والعلمي والتكنولوجي.
ج- على صعيد اللحاق بالركب الحضاري، الأمر اليوم أسهل مما مضى. لأنه عندما يدخل الطالب إلى الكليات العلمية، يدرس العلم كما هو الآن، فهو غير مطالب بأن يطلع عليه من بداياته، إنه يطلع عليه في أعلى مستوياته، كما هو متداول في العالم المتقدم اليوم. فهو يلتحق بما وصل إليه العلم اليوم. فمن الناحية الحضارية والعلمية والتكنولوجية ليست هناك مشكلة، بالنسبة لمسألة اللحاق بالغرب، لأنك لا تبدأ من الصفر. فأنت تشتري التكنولوجيا في آخر مراحلها، وصانعها يحتاج إليك بنفس القدر الذي تحتاج إليه. وهكذا فإن علاقة السيد بالعبد تظل قائمة.
- أنت هنا تتطرق إلى قضية مهمة، ذكرتها في مناسبات سابقة، أرجو إيضاحها! فعندما تتحدث عن العلاقة بيننا وبين الآخر، باعتبارها علاقة تـُطابق علاقة العبد بالسيد. فإن من الطبيعي والواجب أن يخدم العبد سيده. أهذا ما تقصده؟
ج- لا، ليس كذلك! أقصد أنه لا يوجد سيد بدون وجود عبد، فهو سيد “عليَّ” بوجودي “أنا”. فإذا ذهبتُ أنا لم يعد هناك سيد. أي أن كونه سيدا مشروط بوجودي، فإذا غيرت بعض شروط وجودي تغير هو أيضا. إن هذه المعارف التي سنحصل عليها بصيغتها الأخيرة، ستسهم في تغيير شروط وجودنا وبالتالي ستغير الآخر وتغير العلاقة القائمة بيننا وبينه. فالعبيد في روما، لما ثاروا، تغير العالم كله ولم تعد هناك إمبراطورية. نحن يمكن أن نحقق اليوم الثورة بواسطة امتلاك العلم والمعرفة. والمؤشرات على أننا بدأنا في ولوج هذا الطريق واضحة، لا تحتاج إلى كد الذهن من أجل إبرازها. فالعلماء العرب في الكثير من الدول يضاهون كبار العلماء الغربيين، ولهم سمعة جيدة في المعاهد العلمية الأوروبية والأمريكية وغيرها.
ويجب الإقرار بأن العالم اليوم يختلف عما كان عليه بالأمس. والفرص على المستوى العلمي أصبحت في متناول الجميع، المسألة التي لا تقبل إضاعة الوقت. إنها مسألة هي تطوير الوعي؛ أي نظرة الناس إلى الدين، إلى العالم، إلى الكون، إلى القبيلة، إلى الغنيمة… في هذه المجالات بالضبط يجب الاشتغال ونحن مطالبون هنا بالكثير.
- هذه أمور أساسية فعلا. انطلق منها لأشير إلى بعض كتاباتك عن تحويل الفكر العلمي إلى ثقافة. ولمن لا يعرف ما أقصدَ، أقول أن ذلك يعني حسب فهمي، عدم الاكتفاء باستقاء المعلومات العلمية أو الحضارية وحفظها أو تطبيقها في المعامل والمختبرات، بل يتعين التفاعل معها وهضمها وتمثيلها، لتصبح جزءا من شخصية المتعلم أو المثقف، وبالتالي تحويلها إلى جزء من الثقافة السائدة في المجتمع. هذا المفهوم الذي طرحته في بعض كتاباتك يدل على نضج وعمق في التفكير. بيد أن الواقع يدل على عكس ذلك، أي أن هذا العلم الذي تحمله النخبة لم يتحول إلى ثقافة بعد!
- سيتحول شيئا فشيئا، فقد تحول هذا العلم إلى ثقافة مع أولادنا. فولدي الصغير الذي درس في أمريكا يختلف عني من حيث الثقافة. لذلك يجب أن لا نربط التاريخ بواقعنا وإحباطاتنا.
أ- لقد عالجتَ، بل نبهتَ، ربما لأول مرة، إن لم أكن خاطئا، إلى ما سميته بـ”الفكر” كأداة وليس كمضمون، وتمييزكم بين المفهومين كان ماهرا دقيقا. وقمتَ بذلك خاصة في كتابك الأول في سلسلة “نقد العقل العربي”، وهو “تكوين العقل العربي”، الذي اعتبره كتابا فكرياً أساسياً، يتميز بأهمية كبيرة، ويعترف بذلك ناقدك الأشد، جورج طرابيشي، في بداية اطلاعه على كتاباتك، الذي يقول: “إن الذي يطالع “تكوين العقل العربي”، لا يبقى كما كان قبلها. فنحن أمام أطروحة لا تـثـقـف وحسب بل تغير”. وقد حدث لي ذلك شخصيا بالفعل. فأنا اعتبر نفسي قد تغيرت بعد أن قرأت هذا الكتاب. وأوحى إلي َّ كثيراً من الأفكار التي اعتبرها جديدة. واسمح لي أن أقول إن هذه الأفكار قد تتقاطع أو تـُكـَمـِّل بل ربما تغير أحيانا، في مفاهيم العقل التي استخدمتها أنتَ ومفاهيم تطوير المجتمع. مثلا: لقد تحدثت في كتابك عن “العقل كأداة”، ولكنني وضعت مفهوماً آخر سميته “العقل المجتمعي”، وهو ليس أداة، بل هو مضمون مجرد من الأداتية، ولكنه يتحول إلى أداة عندما يعـبِّر عنه الأفراد، الذين يعيشون في ذلك المجتمع، والذين يخضعون لذلك “العقل المجتمعي”، بلا وعي في الغالب؛ يعبرون عنه بـ”عقلهم المنفعل” والمتاثر بذلك العقل المجتمعي. والنقطة المهمة الأخرى التي تحدثت عنها تتعلق بالثقافة العالـِمة( بكسر اللام )، ولم تتحدث عن الثقافة الشعبية، باعتبارها اختصاصاً آخر، وربما وضعتها في المقام الثاني. ولكنني أضع هذه الثقافة الشعبية في المقام الأول، وأرى أنها اكثر أهمية من الثقافة العالـِمة( بالكسر) بل اعتبرها من أهم مكونات العقل المجتمعي. ذلك لأن لديَّ كثيرا من الأمثلة المأخوذة من مجتمعنا العربي عامة ومجتمعي العراقي خاصة، كما أن لديكم الكثير منها. مثلا: زيارة العتبات المقدسة أو التبرك بالقبور وتقديم النذور والأضحيات، وهذه الأمور ليس لها علاقة بالدين، بل قد تقترب من الشرك، وربما تعود إلى شعيرة عبادة الأجداد التي كانت وما تزال سائدة، لدى المجتمعات البدائية. (توسعت قليلا في شرح بعض هذه النقاط اكثر مما ورد في الأصل بغية إيضاح بعض المصطلحات غير المألوفة لدى القراء).
ج – كن على يقين أن كل المعتقدات والممارسات الشعبية الموجودة، لابد أنها كانت في مرحلة سابقة ثقافة عالِمة مؤيدة بأحاديث، موضوعة أو غير موضوعة، مزورة أم لا، هذا غير مهم، لكنها موجودة،. كما أنها مؤيدة بتفسيرات تلقى القبول من طرف الناس رغم هشاشتها. فالثقافة العالمة هي المنبع الذي جاء منه كل ذلك. كل ما نراه اليوم في وسائل الإعلام من بكاء ولطم، تجد له أحاديث منسوبة لجعفر الصادق ينسبها لعلي بن أبي طالب. بينما هذا الفكر، سواء لبس لباسا شيعيا أو صوفيا أو سنيا هو، كما بينت في “بنية العقل العربي”، كله فكر هرمسي. نحن إذن في حاجة إلى الكشف عن الأصول الحقيقية لهذا الفكر. وعندما سنقوم بهذا النوع من الحفر والتنقيب في البنيات الفكرية، سنحقق التغيير المنشود والذي يمس صانعي الثقافة الشعبية ذاتها. هذه الثقافة الشعبية كما تبرز اليوم هي إيديولوجيا متخلفة لاستغلال الجماهير من طرف السيد، وعندما نقوم بفضح السيد ونكشف بأن سيادته مبنية على الأوهام التي يؤمن بها هو الآخر، أو يعرف بأنها مزورة هذا لا يهم، فنحن نكشف الأسس التي يراد تركها خفية على عامة الناس، وهذا يتطلب وقتا طويلا لأن الثقافة الشعبية هي أصعب ما يغير، هي عادات وأعراف لم تخضع للتفكير والنقد. فعندما نحفر عن جذورها ونكشف عنها آنذاك سيصبح التغيير ممكنا. أما أن نهاجمها مباشرة فهذه استراتيجية قد يتولد عنها رد فعل للرأي العام قوامه الرفض والتشكيك في الخلفيات التي هي علمية صرف.
- تحدثت في كتابك العقل السياسي العربي عن ثالوث القبيلة والغنيمة والعقيدة. وكنتُ(أنا) قد كتبتُ بحثاً استندت فيه على بعض هذه المفاهيم، في إثبات نظريتي الخاصة بأن العرب بعد الفتوح الإسلامية انتقلوا من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضر، وهناك فرق بين التحضر(أي سكنى المدن)، والحضارة بمعناها السائد اليوم، كما تعلم. هذه النقلة الفجائية والسريعة، لم تتح لهم الفرصة للمرور بمرحلة الزراعة. لذلك ظلوا محافظين على البنيات القديمة، وخاصة العقلية البدوية، لأنهم لم يمروا من الطور الرعوي إلى الزراعي إلى الصناعي، ما رأيك؟ (لأنني أرى أن مرحلة الزراعة مرحلة مهمة للقضاء على القيم البدوية). \
- هذا التقسيم ليس من الضروري أن نمر به، لأنه تقسيم مستخلص من التجربة الأوروبية. والمطالبة بأن يكون تاريخنا على هذا الشكل هو نوع من المطالبة بأن يكون كل التاريخ نسخة من التاريخ الأوروبي.
- ولكنكَ، أنت نفسك، أكدت في كتاباتك أن عقلية القبيلة والغنيمة ما تزال باقية حتى اليوم، وهذه الأمور من بقايا العقلية البدوية أو الرعوية! !
- هناك خاصية مهمة يجب الالتفات إليها، وقد لاحظها ابن خلدون في زمانه، وهي أن العرب في الجزيرة كانوا قادة جيوش وعندما يأتون إلى المغرب أو غيره من الدول العربية والإسلامية، يكونون قلة تمسك مقاليد الحكم. والباقي ممن يساهمون في التسيير معهم يكونون من سكان البلد الذي خضع للفتح، لأنهم بمجرد دخولهم الإسلام تصبح لهم كل الحقوق، ويصبحون شيئا فشيئا هم كل شيء، على خلاف الإمبراطورية الرومانية مثلا. فالذين صنعوا الحضارة العربية الإسلامية ليسوا بالضرورة عربا من الجزيرة، وهذا هو المهم لأنه يكشف عن مدى الانفتاح الذي كان في هذه المرحلة.
- اللافت للنظر أن العرب الخليجيين اليوم يمرون بنفس المرحلة التي مر بها المجتمع العربي، بعد الفتوح العربية الإسلامية، في القرن الأول للهجرة، أي أنهم انتقلوا من مرحلة البداوة إلى مرحلة “التحضر” (وليس الحضارة ) دون المرور بمرحلة الزراعة.
- نعم ما زالوا بدوا. وأنت تعلم ما كتبته في العقل السياسي العربي.
أ- هذا بالضبط ما أقوله، أي أنهم ظلوا خاضعين للقيم البدوية فيما يتعلق بقيم القبيلة والغنيمة التي ذكرتها في كتابك هذا.
- عرب الخليج لا يمكن أن يتطوروا حضاريا كصناع ومنتجين، بل يمكن أن يكونوا تجارا ومضاربين كما كانوا وكما هم اليوم، مع فارق وهو أنهم أصبحوا مستثمرين كذلك بالمعنى العصري للكلمة. وهنا نعود إلى انطباق مفهوم “الغنيمة” عليهم. ونحن نلاحظ أن هناك تفاوتا كبيراً بين مجموعة البلدان العربية الشمالية، مثل سورية ومصر والعراق، ومجموعة بلدان الخليج. ففي المجموعة الأولى، يتوافر الخبراء والاختصاصيون، بينما تتوافر لدى المجموعة الثانية الثروة.وهذا التصنيف هو وليد ظروف تاريخية. فصحراء الجزيرة ليست كسواد العراق ولا كضفاف النيل. واعتقد أن أكبر خطأ ارتكبه التيار العربي القومي منذ الخمسينات هو أنه نادى بشعار نفط العرب “لكل” العرب. فانتفضت بلدان الخليج وشعرت بالخطر على مصالحها، فاتجهت نحو الإسلام، بدل القومية العربية. فالقومية العربية والبلدان العربية دفعت ثمن هذه الأخطاء. فالأخطاء تحصل ولكن من المهم أن نعيها ونتعلم منها. فزعماء الأمة ارتكبوا أخطاء بما فيهم عبد الناصر في اليمن مثلا، وكذلك العراق عندما احتل الكويت، ومع ذلك فالأمور تمشي، ومن حسن حظ الإنسان أنه ينسى، ولولا النسيان لما استطاع الإنسان أن يعيش.
- من جهة أخرى، الأمر اللافت أن عدد الجامعات في البلدان العربية في الخمسينيات كان لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، اليوم أصبح عدد هذه الجامعات قرابة 250 جامعة( الآن، في عام 2017 ، أصبحت500) خرجت حوالي 14 مليون من أنصاف المتعلمين، ولكن هذا الجيش الجرار من الخريجين لم يقدم إلى الوطن العربي ما يمكن أن يساعده في إحياء نهضته المؤودة بالخلاص من التخلف والسير نحو الحضارة، بل زادت الأوضاع تفاقما خلال القرون الخمسة الماضية. كما لم يقدم، هذا العدد الكبير من الخريجين، إلى العالم أي إنتاج علمي أو تكنولوجي أو فكري خارق، تستفيد منه البشرية جمعاء.
ج – الإنتاج غير موجود لأن وسائل الإنتاج غير موجودة، وهنا يجب أن نستحضر القهر الغربي وما فعله لمنع وقوع ذلك. نذكر جيدا أنه في الخمسينيات والستينيات كان هناك منع مطلق للتكنولوجيا على العالم الثالث بأسره بما فيه العالم العربي، وحتى إذا ما أعطوا شيئا فهم يعطون مؤسسة بالمفتاح حتى لا يتسرب أي معطى علمي لدولة من هذه الدول، ولذلك يجب أن نعلم بأن هناك ظروفا قاسية وليست بالسهلة.
- كأنني أشعر، أو أفهم، أنك تلقي باللائمة، في هذا التخلف الذي نعاني منه، على الآخر اكثر مما تلقيه علينا كشعب فشل في تحقيق نهضته مما أدى إلى وصولنا إلى هذا الوضع المأساوي الماثل في مختلف أرجاء الوطن العربي، ولاسيما في فلسطين والعراق ، في وقت نهضت فيه بلدان آسيوية أخرى، كانت تعاني من التخلف أكثر من مثيلاتها في الوطن العربي، قبل أربعة عقود، علما أن جميع بلدان النمور الآسيوية، لا تملك من الثروات الطبيعية شيئا يذكر.
- طبعاً ، إن دور الآخر لا يمكن أن يُنكر في إعاقة مسيرتنا. وأنا هنا لا ألقي اللوم على الآخر رغبة في تبرئة الذات، ولكننا لا يمكننا أن ننكر دور الاستعمار والمبادئ التي قام عليها والثروات التي نهبها لسنوات طويلة، والتي اتخذها وسيلة لحل المشاكل التي كانت مطروحة عليه. لقد كانت تنبؤات كارل ماركس علمية، حيث ذهب إلى أن تناقضات الرأسمالية ستؤدي إلى نوع من الانفجار في أوروبا، وهذا ما لم يقع، لماذا؟ لأن أوروبا أخذت الأموال من المستعمرات وحلت مشاكل العمال هناك، بإعطائهم حقوقهم. هنا مرة أخرى تبرز ثنائية العبد والسيد، وهذا الأخير الذي استعمرنا ترك قسطا من الحضارة، قلدناها على مستويات عدة، كان أبرزها الفكر. فالبعض درس في فرنسا والبعض الآخر في إنجلترا، فكانت هناك منافذ استطعنا الولوج من خلالها، أشياء لم يكونوا يتوقعونها، وهذا ما سماه هيغل بمكر التاريخ. ففي المغرب مثلا، كان الذين درسوا في فرنسا وكونـَّهم الأوروبيون، أي الرواد الذين دخلوا جامعات أوروبا وارتبطوا بالفكر الأوروبي مبكراً، هؤلاء كانوا هم القوات الوطنية التي قاومت الاستعمار وفاوضته فيما بعد لتحقيق جلاء المحتل عن أوطاننا. وهذا نفسه هو ما وقع في مصر وسوريا وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية الأخرى. يجب أن لا ننسى، كما قلت سابقا، أن أوروبا قضت ثلاثمائة سنة لتحقيق نهضتها بدون آخر مثبط، بينما المشكل عندنا نحن هو وجود هذا الآخر الذي يرى بأن من مصلحته أن نظل على ما نحن عليه. وحالة الاتحاد السوفيتي خير مثال على الدور الذي يمكن للمثبـِّط أن يقوم به. فسقوط الاتحاد السوفيتي إضافة إلى العوامل الداخلية التي لا يمكن إسقاطها أثناء عملية التحليل، يرجع كذلك إلى العوامل الخارجية ممثلة في الحصار الذي ضرب عليه وإلى التخطيط من قبل معسكر كامل يضم الكثير من الدول، وأظن أن هذا المثال كاف لتوضيح ما أقصده بلفظ المثبـِّط.
- وجود إسرائيل كخنجر مغروس في جسد الوطن العربي، أدى وسيؤدي على نطاق أوسع إلى كارثة على صعيد مستقبل هذه الأمة ومصيرها. ففي أفضل الاحتمالات، لو تكرمتْ إسرائيل وتفضلت بمنح الفلسطينيين ربع أو نصف شبه دولة مزورة، محاصرة ومقطـَّعة الأوصال، وهي تسيطر على جميع حركاتها وسكناتها، واضطر الشعب الفلسطيني إلى الموافقة على ذلك، لأن البديل هو ما يحصل له اليوم من أهوال القتل والتشريد والتجويع والقهر؛ في هذه الحالة سيحصل التطبيع مع بقية أزلام الأنظمة العربية المهروِلة والمتعطشة للتعامل مع إسرائيل بأي ثمن. وبذلك تسيطر إسرائيل على مقدرات الأمة العربية ومصيرها، لأنها تملك أهم أوراق اللعبة: العلم والتكنولوجيا والفكر والاقتصاد المتطور، خصوصاً لأنها ستستفيد من الثروات الطبيعية، لاسيما النفط، والبشرية، بما فيها الأيدي العاملة الرخيصة، الموجودة لدى بعض البلدان العربية، التي تتجاوز نسبة البطالة فيها 20 في المائة، وتصريف بضائعها في السوق العربية التي تبلغ 350 مليون نسمة. بل ربما تجذب إليها العقول العربية المتميزة، التي قد تخضع لإغراءات المال والامتيازات التي لا توفرها لها بلداانها. وهكذا يتفجر الاقتصاد الإسرائيلي ويزدهر على حساب العرب الذين سيحصلون على الفتات.
- هذا الوضع متوقع تبعا للمعطيات السياسية الراهنة؟ ولكن ليس من حقنا أن نحكم على ما سيحدث بعد أربعين سنة قادمة من خلال اللعبة التي تـُلعب الآن.
أ- على أي شيء تستند إذا في استشرافك للمستقبل ؟
.ج- ألقيت محاضرة قبل عقدين أو يزيد قلت فيها إنني أراهن على أن دولة إسرائيل ستختفي بعد خمسين عاما.
- ولكن محمد حسنين هيكل، يقول عكس ذلك تماماً.
ج- ذلك رأيه. أما أنا فرأيي في أن إسرائيل ستنتهي بعد خمسين عاما. وقد كنت أعطيت لمشروع إسرائيل الذي كان يطمح لمد الدولة من النيل إلى الفرات، عشرة أعوام، وأنتم تلاحظون انه لم يعد موجوداً الآن.
- الله يسمع من فمك، كما نقول في العراق، ولكنني غير متفائل إلى هذا الحد .
- أرجو أن نلاحظ أن النظرة إلى التاريخ والمستقبل يجب ألا تبنى على المعطيات السياسية الجارية الآن من مفاوضات وتطبيع وغيرهما. بل أنا أتوقع للمؤتمر القومي العربي أن يكون نسخة من المؤتمر الصهيوني الذي انعقد قي بازل في عام 1898. في ذلك المؤتمر تأسست الحركة الصهيونية. وأنا أشبه الحركة الصهيونية بحركة القومية العربية. فمع أن اليهود استخدموا جميع طاقاتهم بما فيها علمهم وذكاؤهم وسيطرتهم على الغرب اقتصادياً إعلامياً وعلمياً واستغلالهم للعوامل الدينية ولحدث المحرقة ( الهولكوست). ومع مرور اكثر من مئة عام على إنشاء هذه الحركة ، فإن إسرائيل ما تزال علامة استفهام. فهي قد فشلت في تحقيق أمنها ولم تحقق حلمها، كما بنت الجدار العازل حولها، ولم يبق لديها إلا البحر. فكما أن إسرائيل حققت هذا القدر من الوجود، أنا اعتقد أن الحركة القومية العربية التي تحلم بتحقيق وحدة عربية ستكون لها بعد قرن، فرصة لتحقيق هذا الحلم أكثر مما تحقق لإسرائيل، فحلم إسرائيل انتهى كما أرى أن إسرائيل قد انتهت تاريخيا.
- أنا أتمنى أن أتمكن من أحلم مثلما تحلم يا سيدي الكريم، ولكنني أخالفك الرأي. ذلك لأن أحلامي قائمة على أساس علمي وعلى أساس واقعي. لأن من المستحيل أن نستشرف المستقبل دون أن ننظر إلى الماضي والحاضر لأن الحاضر هو امتداد للماضي والمستقبل هو امتداد للحاضر . فإسرائيل لديها، مثلا سبع جامعات فقط ،ومع ذلك فهي تفتح فتوحات عظيمة في عالم الفكر والمعرفة والتكنولوجيا، التي تغني الصناعة الإسرائيلية وتذكيها، بل تنفع العالم. بينما لم تقدم 250 جامعة عربية و14 مليون خريج إلى الوطن العربي شيئا يذكر.(أنظر: انطوان زحلان، خاصة في كتابه “العرب وتحديات العلم والتقانة، تقدم من دون تغيير” خاصة ص 28، وفي بحثه القيم “الإمكانات الاقتصادية الإسرائيلية”، في الندوة التي عقدها “مركز دراسات الوحدة العربية” ، حول “العرب ومواجهة إسرائيل، احتمالات المستقبل”، وفي العديد من بحوثه المنشورة في مجلة” المستقبل العربي”).
- أنا لا أتكلم عن إسرائيل في علمها وقنابلها، بل إسرائيل كمشروع سياسي، فهي كدولة وكمشروع سياسي بلغ نهايته، ولا يمكن أن يستمر.
- و لكنها جزء من الغرب، بل الغرب نفسه.
ج- والغرب نفسه بلغ نقطة السؤال: إلى أين
- سؤالي إذا: هل أنت تعتقد أن الغرب سائر نحو الهاوية ؟
- نعم، إما الهاوية أو إعادة تكوين. لاحظ أن التاريخ يصنعه الحمقى أحيانا، بمن فيهم بوش والمحافظون الجدد. وقد مرت مرحلة الحمقى، وقد تأتي مرحلة أخرى غيرها. لاحظ أن إسرائيل أصبحت ثقيلة على كثير من الأوساط في أمريكا وأوربا ولم يعد العطف عليها حقيقياً. بل ظهرت حركات مناوئة لإسرائيل في بعض البلدان الأوربية ولاسيما ألمانيا وفرنسا، مما يعني أن صبر الغرب قد نفد. ونلاحظ أن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ذكر كلمة حق، في وسط كلام أحمق، حيث قال: “إذا كان الأوربيون ما يزالون يحملون عقدة الذنب إزاء اليهود، فليستقبلوهم في أراضيهم و يمنحوهم دولة”. وعندما سمع الأوربيون هذه الكلمة اهتزت ذاكرتهم وأيضا عقولهم وضمائرهم..
- ولكنني أنطلق في كلامي من واقع قائم اليوم وهو أن العرب اليوم أصبحوا خاضعين للآخر بل أصبحوا أذلاء صاغرين، يأمرهم فيمتثلوا !!
- لا، لا أوافقك في ذلك، بل هناك مقاومة عنيفة، فهناك من يستشهد كل يوم في سبيل طرد الأجنبي، خاصة في العراق وفلسطين. ولم يحصل في التاريخ مثل هذه المقاومة حيث تحول فيها الإنسان إلى قنبلة. لا يمكن للآخر أن يحسب لها حساب. وليس من المهم أن يكون ذلك تحت غطاء الإسلام أو غيره.
- حتى لو أوافقك جدلاُ في أن هناك مقاومة مبشرة، ولكنني أرى أن الأمور قد تصبح أكثر سوءاُ إذا تمكنت هذه المقاومة من طرد المحتل، أو من الاستيلاء على مقاليد الحكم. وسؤالي إليك هو: إذا فرضنا أن هذه المقاومة العراقية قد نجحت في طرد المحتل، فماذا سيحدث في العراق في أعقاب ذلك؟ وأنا لا أقصد بذلك، معاذ الله، تأييد الاحتلال، بل أريد أن أقول أننا نظل نختار بين شرين أحلاهما مرُّ، أو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
- أنا أوافق صديقي الدكتور خير الدين حسيب الذي قال لي أمس أنه عاش الحرب الأهلية في لبنان التي انقضت وأصبح لبنان شيئا آخر، والعراق سيصبح شيئا آخر حتى إذا حدثت حرب أهلية. ولِـمَّ لا!!
وحين نبهني صديقي الأستاذ الحضري إلى أن الوقت المخصص للحوار قد أزف، قلت معقباً:
أ- مع أن لديّ سيلا من الأسئلة الأخرى ، بيد أنني سأكتفي بهذا القدر، علماً أن كثيراً من كتاباتك تستحق الاستيضاح والتعليق، لاسيما وإني ما أزال اقرأ بعض فصول منها، على الرغم من أنني سبق وأن قرأتها عشرات المرات!!
ج- لا بأس عليك!! فقد قرأ ابن سينا بعض كتب أرسطو أربعين مرة!
وبهذه العبارة، التي تضمر قياساً مع الفارق، وربما تنطوي عن إطراءً مزدوجاً، قد يستحقه المفكر الجابري، ولا يستحقه كاتب هذه السطور، اختتمنا هذا اللقاء المثير والثرّ.
(ملاحظة: لا شك أن القارئ قد لاحظ اختلافي مع الجابري في عدة مواضع منها أنني أعارضه في مصير إسرائيل بعد خمسين عاماً.