تغير المناخ والمسؤولية الأخلاقية.. المعضلة المسكوت عنها
د. عدنان شهاب الدين
يترقب العالم في مؤتمر أطراف المناخ كوب 28، الذي سينعقد في دولة الإمارات، مسار القرار في الدول الصناعية وإقرارها قبل فوات الأوان بمسؤوليتها الأخلاقية والتزامها بالعمل سريعاً على إزالة جزء ملموس من نصيبها في زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون (CO2) منذ الثورة الصناعية.
فلم يعد ممكناً إنكار أن مسألة زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة عموماً في الغلاف الجوي للأرض أصبحت إحدى أكثر التحديات المصيرية إلحاحاً في عصرنا، كما أن عواقب ارتفاع مستويات تركيز ثاني أكسيد الكربون، المتمثلة في الاحترار العالمي وارتفاع مستوى سطح البحر والظواهر الجوية المتطرفة المصاحبة التي يتزايد تواترها وشدتها، باتت وخيمة على الكوكب وتتطلب معالجة شاملة وسريعة.
ويشكّل مؤتمر كوب 28 الذي ستستضيفه دولة الإمارات في دبي نهاية هذا العام مناسبة مهمة للدول الأعضاء لإجراء مراجعة وافية ومناقشة جدية وصريحة لتحدي التغير المناخي المصيري من جوانبه كافة وللتعرف على مدى التقدم الذي تم إحرازه بالنسبة لتعهدات الدول بخفض الانبعاثات الكربونية ومدى كفاية جهود التصدي التي اتُخذت، وللبحث عن كيفية تعزيزها أو تطويرها (خاصة الأفكار من خارج الصندوق) وأيضاً في كيفية توفير التمويل الكافي للتكاليف الباهظة للعمل المناخي على الأصعدة والمستويات الوطنية والدولية كافة.
وفي حين أكد اتفاق الإطار الأممي لتغير المناخ (UNFCCC) مسؤولية البلدان الصناعية عن النصيب الأكبر من الانبعاثات الكربونية المتراكمة في الغلاف الجوي منذ انطلاق الثورة الصناعية قبل نحو 150 عاماً، والبالغة أكثر من 2500 غيغا طن من الكربون، بمشاركة دول نمت حديثاً ذات كثافة سكانية عالية مثل الصين، فقد كرّس في المقابل «مبادئ الإنصاف والتنمية المستدامة في أوجه التعاون الدولي كافة»، وأن يتم اتخاذ القرارات الملزمة للأعضاء بتوافق الآراء في مؤتمرات الأطراف المنبثقة عن الاتفاقية، وفقاً لمبدأ «المسؤوليات المشتركة لكن المتمايزة للدول كافة وبما يتماشى مع قدرتها».
ومع أن توافق الآراء في القرارات المصيرية التي تتخذ في مؤتمرات الأطراف السنوية مبدأ عادل ومنصف فإنه مرهق ومعرقل ويعقد ويبطئ عملية اتخاذها.
ومن المؤكد أن فرص حدوث اختراق وإحراز نجاح فارق في مؤتمر دبي موجودة لكنها ضعيفة، فهناك تباين كبير في مواقف مختلف الفرقاء المؤثرين في مؤتمرات الأطراف منذ المؤتمر الأول في عام 1995 بشأن عدد من القضايا الخلافية الهامة منها اختلاف مفهوم العدالة المناخية بين الشمال الغني والجنوب النامي أو الفقير، وما هو التوازن المناسب بين إجراءات «التخفيف» وإجراءات «التكييف».
هذا فضلاً عن اختلاف الآراء بشأن السيناريو الأمثل لوقف انبعاثات الكربون وحجم الأضرار التي يمكن أن تصيب الاقتصاد العالمي، خصوصاً اقتصاديات الدول النامية من جراء ما ينادي به بعض كبار المسؤولين الأمميين ومسؤولي وكالة الطاقة الدولية بالحاجة إلى وقف فوري للاستثمار في تطوير الاكتشافات النفطية الجديدة، وكذلك السجال الحاد حول الحاجة للتخلص التدريجي أم الخفض التدريجي للوقود الأحفوري، في حين يجادل آخرون في أن التخلص ينبغي أن يكون من الانبعاثات، وذلك باستخدام تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، وليس من النفط والغاز، اللذين سيبقيان ضروريين لمعالجة فقر الطاقة، ناهيك عن الفجوة الخلافية الكبيرة بشأن مسؤولية تمويل العمل المناخي العالمي الباهظ التكلفة والمقدرة بنحو ما بين خمسة وعشرة تريليونات دولار أميركي سنوياً.
لكن المؤسف حقاً أن العمل المناخي العالمي لتحقيق الهدف الطويل الأجل للاتفاق الإطاري الأممي المتمثل وفقاً لاتفاق مؤتمر باريس للأطراف عام 2015 في خفض متوسط حرارة سطح كوكب الأرض إلى ما دون 1.5 درجة مئوية ما زال يرتكز بشكل رئيسي على جانب «التخفيف» بهدف تحول نظام الطاقة العالمي نحو الحياد الكربوني وتصفير الانبعاثات بحلول عام 2050.
على أن مؤتمرات الأطراف شرعت أخيراً -وإن كان باستحياء- في مناقشة الحاجة للبدء في اتخاذ إجراءات «التكييف» -العماد الثاني للعمل المناخي- للتعامل مع الآثار الدائمة المتبقية، الناجمة على سبيل المثال من غمر الأراضي الساحلية نتيجة ارتفاع منسوب البحر مع الاحترار المناخي وكذلك زيادة وتيرة وشدة الأعاصير والسيول والفيضانات، والتي أصبحت واقعاً ملموساً، لا مجرد تنبؤات مستقبلية، وفي هذا الإطار أقر مؤتمر الأطراف كوب 27 في العام الماضي بشرم الشيخ إنشاء صندوق الخسائر والأضرار لدعم الدول النامية والفقيرة «الأكثر تضرراً» من تغير المناخ من دون الاتفاق على حجم الصندوق ومصادر تمويله وكيفية وشروط الإفادة منه.
ويتحدث الكثيرون باستفاضة قبيل وأثناء مؤتمرات المناخ وغيرها من الملتقيات وفي الإعلام المرئي والمسموع ووسائط التواصل الاجتماعي عن أهمية التصدي العاجل والمسؤول لظاهرة التغير المناخي، وضرورة السعي إلى تحويل آثارها السلبية إلى فرص تنموية خلّاقة تعزز الاستدامة والتنوع الاقتصادي وجودة الحياة وغير ذلك من ميسور الكلام، لكن من دون اقتران الكلام بالأفعال المثمرة والمؤثرة بشكل كافٍ وعادل.
وغالباً ما يقتصر الحديث على المسؤولية المشتركة في انتهاج سياسات «التخفيف» القاسية للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050، وأن ذلك يتطلب الالتزام الصارم من جميع الدول من الآن فصاعداً باستهلاك كميات متناقصة من الوقود الأحفوري بما لا يزيد على موازنة الكربون الضئيلة المتبقية والمقدرة بنحو 350 غيغا طن من ثاني أكسيد الكربون، وفقاً لمتوسط سيناريوهات الحياد الكربوني التي وضعتها اللجنة الدولية لتغير المناخ (IPCC)، بغض النظر عن كميات الوقود الأحفوري الضخمة التي استهلكتها الدول الصناعية ومسؤوليتها عن النصيب الأكبر من إرث الانبعاثات الكربونية المتراكمة الضخم.
وتكتفي الدول الصناعية الغنية بالحديث عن مبادرتها بوضع سياسات، وموّلت برامج كما سنّت قوانين لغرض تخفيض انبعاثاتها الكربونية بتسارع للوصول للحياد الكربوني قبيل عام 2050.
كما أكّدت الدول الصناعية أنّها لن تزاحم الدول النامية بحصة ملموسة من الموازنة الضئيلة المتبقية لانبعاثات الكربون في الوقت الذي تواصل فيه هذه الدول الحديث أيضاً عن تعهداتها بتقديم مساعدات مالية للدول النامية لمواجهة التهديدات المناخية قدرت بنحو 100 مليار دولار أميركي سنوياً.
إلا أن حجم هذه التعهدات كان قليلاً نسبياً ولم يتم الوفاء بها كاملة، وذهب جلّ ما تم تقديمه إلى مشاريع «التخفيف» لمساعدة الدول النامية في خفض انبعاثاتها (وهي أصلاً متدنية) والتحول نحو الحياد الكربوني سريعاً بدلاً من تقديمها لمشاريع التكييف الرامية إلى تحسين القدرة على الصمود أمام تغير المناخ.
وتتناسى الدول الصناعية أنها استهلكت خلال 150 عاماً كميات ضخمة من الوقود الأحفوري ساعدتها بشكل كبير في الوصول إلى مستوى متقدم من التنمية والرفاه، وبتكلفة زهيدة جداً من دون أن تتحمل الأعباء المترتبة على إضافة معظم الإرث التاريخي لثاني أكسيد الكربون المتراكم في الجو والتي تقدر تكلفة إزالته بما لا يقل عن 250 تريليون دولار، وفقاً لأكثر التقديرات تفاؤلاً بشأن مستقبل تكلفة تقنيات إزالته مباشرة من الجو.
ويعني ذلك مجازاً، وفق مسار سيناريو وكالة الطاقة الدولية، أن الدول الصناعية (دول منظمة OECD) ستحمل معها إرثها الضخم من الانبعاثات الكربونية، الذي يقارب ألفي غيغا طن– بإعفاء كامل ومن دون أي تكلفة أو ضريبة أو تبعات- على متن سفينة الخلاص المناخي تيمناً بسفينة «نوح» التي يجري تصميمها وصنعها في مؤتمرات الأطراف والتي يفترض أنها ستوصل ركابها من كافة شعوب العالم نحو بر الأمان البيئي بُعيد عام 2050، محملين بمجمل متاعهم من الإرث الكربوني التاريخي (ومعظمه يعود لشعوب دول منظمة OECD المنعمة) ومحملين كذلك بكميات ضئيلة من الوقود الأحفوري المسموح لشعوب الدول النامية بتحميلها للإفادة منها في مسيرة تنمية ورفاه مجتمعاتها والمكافئة في انبعاثاتها للموازنة الضئيلة المتبقية لانبعاثات الكربون التي قدرتها (IPCC) بنحو 380 غيغا طن.
وسيسعى جميع ركاب سفينة الخلاص البيئي على تأمين معظم احتياجات تنمية ورفاه مجتمعاتهم من الطاقة مستقبلاً من تقنيات طاقات الرياح والشمس كلما هبت الرياح وسطعت الشمس ومما يتم تخزينه من فائض الإنتاج في تلك الأوقات في بطاريات ضخمة السعة وباهظة التكاليف.
لكن الالتزامات المعلنة بتصفير الانبعاثات -كما يذكرنا «معلم» الطاقة العالمي دان ييرغن مراراً- «لا تحقق» الصفر في إجمالي الانبعاثات عام 2050، بل تتجاوزه وبهامش كبير.
فما زالت الدول الأوروبية والولايات المتحدة وباقي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تعلن عن سياسات وتضع خططاً وتخصص أموالاً ضخمة للوصول إلى الحياد الكربوني في منظومتها للطاقة قبيل عام 2050، وفقاً لسيناريو وكالة الطاقة الدولية التابعة لمنظمةOECD .
وقد تنجح هذه الدول في الوصول إلى مبتغاها لكن بصعوبة بالغة، خصوصاً أن العديد منها تتنصل من بعض التزاماتها المناخية حين تجابهها أول عقبة سياسية أو اقتصادية جدية.
إلا أن الصين أعلنت أنها لن تصل إلى تصفير انبعاثاتها قبل عام 2060، أما الهند فالتزامها المعلن حالياً هو لعام 2070، في حين لم تعلن الكثير من الدول وخاصة النامية منها في إفريقيا عن جدول زمني للحياد الكربوني خاص بها، بل أوضحت غالبيتها أنها معنية في المقام الأول بتحقيق التنمية وانتشال قطاعات كبيرة من سكانها من فقر الطاقة.
وعليه يتعين التسليم بأن سياسات التخفيف لن تنجح وحدها في تحقيق هدف اتفاقية باريس.
ولمعالجة تحدي المناخ العالمي جذرياً، من الضروري أن تتخذ الدول الأعضاء في مؤتمر كوب 28 والمؤتمرات التي ستليه في السنوات القليلة القادمة وقبل فوات الأوان إجراءات طموحة وشجاعة في جانب العماد الثالث الذي لا غنى عنه لمعالجة متكاملة لمشكلة أي تلوث بيئي جدي ألا وهو عماد الإزالة، جنباً إلى جنب مع إجراءات التخفيف والتكييف.
ويعني ذلك العمل على إزالة القدر الأكبر الممكن من التلوث القائم، وهو الأمر الذي تتجنب أو تتهرب الدول الصناعية الغنية من حتى مناقشته بواقعية ومسئولية، دع عنك إمكانية تبنيها تعهدات ملزمة بإزالة ولو نحو عشرة في المئة من نصيبها من الإرث الكربوني المتراكم، أي ما يعادل 250 غيغا طن من أصل 2500 غيغا طن من ثاني أكسيد الكربون تم إضافتها منذ الثورة الصناعية.
ويمكن أن يتم ذلك من خلال الإسراع في تطوير ونشر تقنيات إزالة ثاني أكسيد الكربون من الجو وفي طليعتها تقنيات التقاط الهواء مباشرة(DAC) ، ومن خلال قيامهم بذلك، يمكن للدول الصناعية الغنية إظهار التزامها بمعالجة أزمة المناخ بشكل أكثر جدية، مع إفادة المجتمع العالمي، وخاصة الدول النامية والأجيال القادمة، وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة مثل هذا المسعى فإنه يبقى ثمناً ضئيلاً يجب دفعه مقابل كوكب مستدام.
وأخيراً، حسناً فعلت حكومة الولايات المتحدة الأميركية باتخاذ خطوة أولى -وإن كانت صغيرة- في هذا الاتجاه، حيث أعلنت في عام 2022 عن تخصيص أكثر من مليار دولار أميركي لتطوير مراكز إقليمية لسحب وتخزين ما يعادل مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.
وهنالك مشروع قانون مقترح في الكونغرس الأميركي لتمويل التوسع في نشر تقنيات الإزالة ومضاعفة السعة المنشأة ألف مرة لتصل إلى غيغا طن من ثاني أكسيد الكربون في السنة. لكن الطريق طويل وشاق لتحويل هذه الخطوة إلى التزام قانوني للدول الصناعية كافة، بإزالة ما يعادل عشرة غيغا طن سنوياً.
ويعد مؤتمر كوب28 بقيادة دولة الإمارات فرصة ذهبية لإحداث تغيير حقيقي في هذا السياق، وعلى الدول المشاركة بدء مشاورات جدية لتحقيق هذا الهدف الحيوي قريباً.
* الدكتور عدنان شهاب الدين زميل باحث أول زائر في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة بالمملكة المتحدة وعضو مؤسس مجلس إدارة معهد تحول الطاقة (2009-أمستردام)، شغل منصب المدير العام لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي للفترة (2011-2021) وكان عضواً في مجلس إدارتها قبلها (2007-2011)، كما شغل منصب الأمين العام بالوكالة سابقاً ومدير الأبحاث في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك).