Arabthoughtcouncil...


Dr. Mones Abu-Asab

جذور الانهيار: المشاكل المزمنة في النظام البنكي الامريكي!!

د. مؤنس أبوعصب

بثسدا، مريلاند

في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية وحتى خارجها، كان هناك شعور بالذهول وعدم التصديق بعد الإعلان عن إفلاس بنك سيليكون فالي (Silicon Valley Bank) في الأسبوع المنصرم، وما تبعه من إفلاس بنكين آخريْن هما: بنك سجنتشر (Signature Bank) وبنك سلفرجيت (Silvergate Bank).

شكّل إفلاس بنك سيليكون فالي صدمة للنظام فهو المصرف السادس عشر في حجمه في ترتيب المصارف الأمريكية، وبرأس مال قدره 220 مليار دولار تقريباً. ومما يزيد الأمر غموضاً أن المصرف مر بفحص دوري لعملياته المالية من قبل مفتشي وزارة الخزانة قبل إعلان إفلاسه بمدة وجيزة. تزيد قيمه مجموع البنوك الثلاثة المفلسة عن 330 مليار دولار. لكن يجب ألَّا يكون مستغرباً حصول هذه الانهيارات الأخيرة، إذا عرفنا أنه قد أفلس أكثر من 550 بنكاً بين 2001 وبداية 2023. لكنّ هذا الإفلاس الأخير كان ملفتاً للنظر بشكلٍ خاص. فقد حصل في وقت كان فيه الكثير من الناس في الولايات المتحدة يخشون بالفعل الركود، ولكون بنك سيليكون فالي أكبر بنك يفشل منذ أن أغلقت الحكومة بنك واشنطن ميوتشوال (Washington Mutual) وسط الأزمة المالية لعام 2008. فماذا حصل لبنك سيليكون فالي وماذا يحصل في البنوك الأمريكية لتصل هذه البنوك الثلاثة إلى الإفلاس فجأة وبدون أن يلاحظ مراقبو البنوك في وزارة الخزانة والمؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع؟! وأين كان مسؤولو البنك الاحتياطي الفدرالي في سان فرانسيسكو المسؤول عن الإشراف على بنك سيليكون فالي؟!

 بحسب ما أُعلن من تفسيرات رسمية وخاصة، فإنّ إدارة بنك سيليكون فالي مسؤولة عمّا جرى نتيجة قراراتها الاستثمارية السيئة. فقد قامت إدارة البنك باستثمار عشرات المليارات في السندات ذات المردود الثابت. وعندما بدأ الاحتياطي الفدرالي بزياده سعر الفائدة من 0,5% الى 4,75% في غضون سنة، أصبحت هذه السندات لا تجني الارباح الكافية لتغطي حاجة البنك، وكان من الصعب بيع هذه السندات بدون خسارة، وواكب ذلك سحوبات عالية من المودعين جعلت البنك مكشوفاً. في الحقيقة، خسرت السندات قصيرة الأجل -ولأول مرة في تاريخها- حوالي 13% في السنة الماضيه كما كشف مؤشر السندات الإجمالي (Total Bond Index). أما البنكان الآخران فكانت خسائرهما بسبب أن معظم محفظة قروضهما مستثمره في العملات الرقمية والتي سقطت قيمتها بنسبة كبيرة.

ولكن بالرغم من التفسيرات التي قدمها المسؤولون الحكوميون والخبراء الاقتصاديون يجد المواطن العادي صعوبة في هضم هذه التفسيرات الرسمية والاطمئنان أنّ الآمان مستتبّ في النظام المصرفي. فإذا قبلنا بالتفسير المعلن لإفلاس بنك سيليكون فالي بسبب هبوط فوائد السندات، وهو تفسير غير متكامل لأنه يغطي جانبا واحداً من المشكلة، فكيف نتقبل تفسير إفلاس البنكين الآخرين بسبب قروض العملات الرقمية؟ من منا لم يتفاجأ أن هذه البنوك كانت غارقه في ديون العملة الرقمية المعدومة! وهل سيكون هناك مزيداً من المفاجأت البنكية؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه في هذا المقال.

هل كان إلغاء قانون جلاس-ستيجال بداية للمشاكل البنكيه؟
لفهم ما يحدث في النظام البنكي الأمريكي يجب أن نعود بعض الشيء إلى الوراء إلى الكساد الكبير (1929-1939). بدأ الكساد الكبير بانهيار أسواق الاسهم الذي تبعه فشل البنوك وشُح النقد. البنوك انهارت لأنه كان لديها فائض من القروض الكبيرة التي لا يمكن تصفيتها بالأضافه الى سحب العملاء لنقودهم، بسبب فقدان الثقه بالبنوك وخوفهم من خسارة مدخراتهم. بسبب ما حدث، سن الكونغرس قانون البنوك لعام 1933 والذي أنشأ المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) وفرض العديد من الإصلاحات المصرفية الأخرى. غالباً ما يشار إلى هذا القانون بأكمله باسم قانون جلاس-ستيجال (Glass-Steagall Act). الجزء المهم في القانون أنه فصل بشكل فعال الخدمات المصرفية التجارية عن الخدمات المصرفية الاستثمارية. وبالتالي منع البنوك من القيام بخدمات مصرفية استثمارية مثل: تداول المشتقات والأوراق المالية، أي التداولات التي تحمل مخاطر كبيرة. ولكن على مر السنين، ظلت اللوبيات البنكية تسعى للحصول على تأويلات جديدة للقانون تمنحها الإذن بالعودة بشكل جزئي الى الخدمات المصرفية الاستثمارية، إلى أن استطاعت في العام 1999 أن تنقض كلياً قانون جلاس-ستيجال بمباركة كونجرس جمهوري والرئيس الديمقراطي بيل كلنتون. فماذا حصل بعد ذلك؟ ضرب الروث بالمروحة كما يقول الامريكيون وحصلت أزمتان، الأولى صغيرة في 2000 والثانية كبيرة في 2007، وكلا الأزمتان في رأيي لهما علاقه مباشره بنقض قانون جلاس-ستيجال. في 18 أيلول 2007، توقف النظام البنكي كلياً بسبب عدم وجود سيولة كافيه في البنوك! وبكى موظفو وزارة الخزانة في واشنطن العاصمة من الذعر والارتباك. ستسأل نفسك، هل هذا ممكن؟ نعم، فهذا ما حصل بالفعل في أكبر اقتصاد في العالم.

بعد أزمة 2007-2008 الاقتصادية في الولايات المتحدة الامريكية، والتي سميت بالركود العظيم (The Great Recession)، اتخذ الكونجرس والحكومة الفدرالية، مرة أخرى، الكثير من الأجراءات الاحترازية من أجل تفادي تكرار ما حصل. فُرِضت مجموعة جديدة من القيود على البنوك وأجبرت على اتباعها جميع البنوك بدون استثناء، ومن هذه القيود زيادة نسبة الأموال التي يودعها البنك لدى الاحتياطي الفدرالي الى 10% من ودائع البنك، وأن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بإجراء اختبارات ضغط (stress tests) منتظمة على البنوك والقطاع المصرفي لقياس استعدادهم لمواجهة أيّة مشاكل بنكية في المستقبل. هذا بالإضافة إلى قوانين أخرى كثيرة. فهل نجحت كل هذه الإجراءات في منع تكرار أزمة 2008؟ على ما يظهر، وبناءً على الانهيارات البنكية الأخيرة، إنّ كل هذه الإجراءات لم تكن كافية او فعالة ولم تنجح في وقف الانهيارات.

هل ما زال السوق النقدي الأمريكي بحاجة إلى التيسير الكمّي ؟
بعد الأزمة المالية في 2007-2008، أدخل البنك المركزي شكلاً جديداً من السياسة النقدية سميت بالتيسير الكمّي (Quantitative easing)؛ وهو إجراء في السياسة النقدية حيث يشتري البنك المركزي كميات محددة مسبقًا من السندات الحكومية أو الأصول المالية الأخرى من أجل تحفيز النشاط الاقتصادي. فمن خلال شراء هذه الأوراق المالية، يضيف البنك المركزي أموالاً جديدة إلى الاقتصاد؛ ونتيجة لهذا التدفق النقدي، تنخفض أسعار الفائدة، مما يسهل الاقتراض من البنوك للشركات وللمواطنين. التيسير الكمّي ومنذ العام 2009 هو العامل الرئيس الذي وفر السيولة النقدية للنظام المصرفي الأمريكي. ومع ذلك، في عام 2022، حول مجلس الاحتياطي الفيدرالي سياسته النقدية بشكل كبير لتشمل ارتفاعات كبيرة في أسعار الفائدة وخفضًا في حيازات الاحتياطي الفيدرالي وذلك لتفادي الارتفاع المستمر للتضخم الذي ظهر في عام 2021. فمن سلبيات التيسير الكمّي زياده التضخم وهبوط قيمة العملة. إذاً ما هي علاقة التيسير الكمّي بإفلاس البنوك؟ إنّ عدم وجود سيولة كافية في النظام البنكي يجعل انهيار البنك حتمياً لعدم قدرة البنك على الاستقراض من بنوك أخرى أو بيع اصول البنك بالسرعة المطلوبة. جميع الظواهر تشير إلى أنّ النظام البنكي الامريكي بحاجة الى التيسير الكمي مرة أُخرى لتفادي المشاكل المتعلقة بنقص السيولة.

هل البنوك الامريكية والاقتصاد الأمريكي مقبل على أزمات جديدة؟
هذا هو السؤال الذي تساوي الاجابة عليه بلايين الدولارات! هناك جملة يرددها المسؤولون الكبار دائماً عندما تحدث أزمة إقتصادية غير متوقعه، حتى أن الرئيس بايدن استخدمها مؤخراً. هذه الجملة تقول، “الأسس الاقتصادية سليمة.” إذا كانت الأسس سليمة، فلماذا تحدث الانهيارات البنكية، ولماذا التيسير الكمّي، ولماذا الرفع المتسارع لسعر الفائدة؟ في رأيي أن الأسس تهتز وبشدة؛ لأنّ الأسس قد تغيرت منذ زمن طويل. فالولايات المتحدة التي كانت دولة مصنِّعة أصبحت دولة مُستهلِكة، والمواطن مستهلِك مديون، وتوقفت بنوكها على أن تكون الملاذ الآمن لرؤوس الأموال الأجنبية. إضافة الى ذلك، فميزان التجارة الخارجية هو سلبي بمئات الميارات، وديون الحكومة الفدرالية تصل الى 31 ترليون دولار. ويجب أن لا ننسى أنّ هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي آخذة بالتآكل. “الأسس الاقتصادية سليمة” أصبحت جملة فارغة تقترب من كونها نكتة ساخرة. لذلك أترك للقارئ أن يجد جواباً لهذا السؤال!

هل سبَبَ إفلاس البنوك الأخير فقدان الثقة في النظام البنكي الأمريكي؟
إفلاس البنوك الصغيرة في الولايات المتحدة قد يوضع على الصفحة الرئيسة في الصحافة المحلية ولكنه يمر بدون ذكر في الصحافة الوطنية. والسبب في ذلك أن حيازة المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع على البنوك المنهارة تمر بهدوء تام. فالمؤسسة تضمن الودائع لغايه 250,000 دولار، وتبقي على الموظفين الأصليين حتى تنهي عملية تصفية البنك. لكن عندما يُحدِث انهيار البنك ضجة كبيرة، كما حدث مع انهيار الثلاثة بنوك في الأسبوع الماضي، فإن ثقة الجمهور الامريكي تضعف، ومن الممكن أن بعض ضعاف القلوب سحبوا ودائعهم. إذا كانت الوديعة أكثر من 250,000 دولار فإنّ الجزء الذي فوق هذا الحد لا يعوّض من قبل المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، ولكن الحكومة الامريكية قررت هذه المرة أن تغطي كامل ودائع بنك سيلكون فالي وذلك لأن الكثير من المودعين هم شركات ناشئة لا تحتمل خسارة معظم وديعتها، ومن الممكن انهيارها وبطاله موظفيها. لا شك بأن ظلال أزمة 2007-2008 لازالت ماثلة في عقول كثير من الناس، والكثير يتذكر كيف حددت البنوك في ذلك الوقت كمية النقود الممكن سحبها من الودائع.

هل أثر رفع سعر الفائدة على البنوك والتضخم؟
على مدار العام الماضي، قام الاحتياطي الفدرالي برفع سعر الفائده تدريجياً من 0,5% الى 4,75% تحت ذريعة كبح التضخم الذي وصل الى معدل سنوي يناهز 10%. هذا المعدل من التضخم يعتبر عاليأً ويؤدي الى مشاكل اقتصاديه واجتماعيه؛ ولكنّ رفع سعر الفائده الى هذا الحد يعتبر ضربا من الهذيان في السياسة المالية. إذا كانت الأرقام الحكومية صحيحة، فإنّ التضخم الآن هو 6%. فهل أثر فعلاً رفع سعر الفائده على التضخم؟ إنّ الاجابة عن هذا السؤال لم تحسم بعد. لكن ماذا فعل رفع سعر الفائدة بالبنوك؟ إنّ مدراء بنك سيليكون فالي يلقون باللوم على الاحتياطي الفدرالي لانهيار البنك لأن رفع سعر الفائده أدى لخسارة فادحة في استثمارات البنك. بالإضافة، أدى رفع سعر الفائدة الى هبوط في أسعار العملة الرقميه وهذا هو السبب الذي يتداوّل لانهيار بنك سجنتشر وبنك سلفرجيت.

إن الانهيارات التي حدثت في الاسبوع الماضي هي دليل على أن القوانين التي أُقرت بعد انهيارات 2007-2008 لم تضبط التصرفات البنكيه على وجه صحيح؛ فها نحن نواجه مجموعة انهيارات حديثة كان من الممكن تفاديها. وهذا يطرح السؤال عما إذا ما كان المشرعون الامريكيون عاجزون عن مقاومه اللوبيات البنكية وسن قوانين تضمن الممارسات البنكية الصحيحة واستمرار البنوك بدون مشاكل. بدون قوانين فعاله وبدون مراقبة كفوءة سنكون على أعتاب نظام فلافل مصرفي في الولايات المتحدة (مع احترامي الشديد للفلافل)؟! أظن أن إفلاس البنوك الأخير هو دليل على وجود مشكلة (أو مشاكل) جدية في النظام البنكي الامريكي.