Arabthoughtcouncil...


خيري الذهبي

الذاكرة والماضي: السيرة الذاتية لخيري الذهبي

صالح الرزوق

يحتكم خيري الذهبي إلى ذاكرته في كل أعماله. وقد أفرد لمذكراته عملين: الأول “من دمشق إلى حيفا” 2019. والثاني “الجنة المفقودة” 2021. وكلاهما من آخر شوط في حياته. ولكن أتحفظ على فكرة أنهما سيرة ذاتية على غرار “الأيام” لطه حسين مثلا. فهما برأيي أقرب لإضاءة لحظة متبقية في الذهن. ولا سيما أول عمل، فهو يعبر عن اختلاف الذاكرة مع الهوية. ويقدم فيه تفاصيل عن محطات أساسية في حياته بدءا من أيام الدراسة وزواجه المبكر وحتى المشاركة بحرب عام 1973 والوقوع في الأسر. ولذلك لم يتبع الأسلوب المتسلسل، واختار بعض الصور الهامة، وأعاد ترتيبها بطريقة توضح مجمل ما توصل إليه من نتائج. وكان كل الوقت ينظر إلى نفسه بمرآة الآخرين. وهم ثلاثة:

1-صديقة يونانية رافقها بجولة في أرجاء المعمورة ثم انفصلت عنه في مصر. ويجب التنويه هنا بدور الإغريق في دمج العقل السوري مع التراب المصري من خلال جسور الثقافة الهيلينية ولاحقا المتوسطية، في حين أن العرب لعبوا دورا معاكسا، وفي الذهن سقوط دولة الوحدة عام 1961، ثم انهيار التفاهم العسكري بعد توقيع اتفاقية كامب دافيد عام 1978. ومن المؤكد أن الثقافة الهيلينية لعبت دورا أطول وأعمق في تقريب السوريين مع المصريين، بينما كان دور الفكر القومي قصير الأجل وتنافسيا ومفرقا، إن لم يزد من سعار التنافس على الزعامة. وإن رجعت بذهنك الى الوراء قليلا ستجد أن المصائب والرزايا لم تسوِ بالأرض منابع الثقافة الهلينية، ولا تزال أنطاكية والإسكندرية بمأمن نسبي من الخراب الذي لحق بمنارات الفكر العروبي وعلى رأسها دمشق وبغداد.

2- الآخر الثاني هو نقطة المراقبة الأممية في الجولان.

3- والثالث والأخير هو ضابط التحقيق الإسرائيلي الذي عبر عن صوت المكبوت ذاته، وكان دوره يشبه دور مكبر صوت يضخم الأفكار الهامسة والخجولة.
وإذا كانت الهوية تابوتا ضيقا تدفن فيه كل الاحتمالات المرجوة بالخلاص والأمان، توجب على الراوي أن يتستر على هويته الفضائحية لينجو بجلده من ما قال عنه إنه حقل يوم القيامة. ثم استغل هذا الوضع الميداني ليعبر عن سخطه من زيادة عدد الأخطاء التي بدأت تتحكم بمصيره، وإلى تضاعف حجم إشارات الاستفهام وعدم وجود أي جواب ناجع. ولم يبق إلا أن يشبه نفسه بالخلعاء والصعاليك، ولا سيما أن جهاز اللاسلكي الخاص به قد عطلته القيادة (كما قال حرفيا)، وتركته ليصادق حيوانات البراري (فرس ومهرها وكلب رعاة وسرب من الحمائم المرعوبة). وهذه إشارة مبكرة على رهاب الخصاء. وسيتكرر ذلك في الساعات الأولى من الوقوع بالأسر، وستكون عيناه معصوبتين، ونظره في ظلام دامس كما هي نهاية أوديب المعروفة.
وبإشارة غير مسبوقة، تعارض كل أدبيات حرب تشرين / أكتوبر، سيصف كوكبة المقاتلين السوريين أنهم كانوا طابورا من العميان. ولا يوجد في الذهن نعوت قاسية من هذا النوع قللت من مؤهلات المقاتل السوري إلا في عملين لنبيل سليمان وهما “جرماتي” و”المسلة”. وقد انفرد الثنائي الذهبي – سليمان بهذه اللغة الهجومية، وخالفا بها أعمالا خفيفة مثل “المرصد” لحنا مينة و”أزاهير تشرين المدماة” للعجيلي. ومع أنها روايات هزيلة ودعائية، والغاية منها رفع المعنويات، فقد مهدت لأعمال هي علامة فارقة في الخطاب الفني وليس الموضوع فقط، ومنها “الرفاعي” لجمال الغيطاني و”رفقة السلاح والقمر” لمبارك ربيع. وكلتاهما بعيدتان كل البعد عن الفهم الكلاسيكي لمعنى الرواية، كما أنهما رفعتا الحبكة من وقائع تدور على الأرض إلى وقائع تستكمل دورتها الذهنية والنفسية في الفضاء (القمر وتأثيره الرومنسي في رواية ربيع – وتضحيات الضابط الطيار في “الرفاعي”).
وكل من قرأ هذه الأعمال سيلاحظ جسامة الفرق في الاتجاه. ورغم عنتريات ومرجلات الذهبي، وهو في الأسر، كان الفضاء عنده فرنا لحرق الأحياء، حتى أنه أمطر الأرض بمئات الطيور الميتة. وقال عن هذا المشهد: إنه لوحة سريالية تتحدى البشاعة التي كان دالي يخترق بها المحظور. في كل الأحوال عوض الذهبي بلسانه عن خسارته لبصره – عضو النكاح الثاني عند أوديب. مع ذلك لم يكن يجني منه نفس المكاسب. فقد تبين له أن اللسان مخادع، يبشر ولا يفعل. وهو تكرار لدروس ومواعظ ذاكرة منهوبة (يقول عنها: ذاكرة دعائية. ثم يردف إنها كالحجر المغلف بالصوان). ولن يسعفه لسانه، كما قال للكولونيل نهاري، في منافسة أوهام وأكاذيب الحلم الصهيوني، ومن ورائه حارسته المخلصة أمريكا. ولا ينسى أن يشير في هذا السياق إلى غلبة الوهم – يسميه الديمقراطية الأشكينازية وسقوط الحقيقة – وهو واقع الأرض التي يتحكم بها (كما قال) محيط من الحكام المماليك.
ولكن يجب الإشارة لنقاط مشتركة تلم شمل الفريقين، المنتقد لحرب تشرين والمهلل لها.
أولا لم ينكر أحد أن الأرض المتنازع عليها هي عربية وسليبة.
ثانيا. اتفقوا جميعا على أن إسرائيل دولة عدوة، حتى أن كتاب العراقي نجم والي، وهو من أدب الرحلات، ويدور حول رحلة إلى القدس، حمل عنوان “زيارة إلى قلب

العدو”.

ثالثا انتبهوا جميعا للظاهرة الشعوبية في هذه الحرب. فالعرب عمليا كانوا بمواجهة تحالف الغرب مع اليهود.

رابعا تعالي يهود أوروبا على يهود آسيا والتعبير عن مشاعر الدونية أمام الغرب الأمريكي. وهذا هو موضوع رواية “رغوة سوداء” للإرتيري حجي جابر. حتى أنه

في أعمال عاموس عوز تكون الشمس فوق الأحياء العربية بلون فضي خانق (وآخر مثال تجده في قصته “الانتظار” المنشورة في النيويوركير).
خامسا الاتفاق على توظيف الحرب إما بشكل قراءة عاطفية ورومنسية للتاريخ وأساطيره وما طرأ عليه من انحرافات وإضافة، أو لتوجيه النقد الموجع للأنظمة

والحكومات وتكاسلها وتراخيها. ولذلك لا تخلو رواية حربية من ظاهرة الانتفاع واستغلال الفرص. وإذا كنت غير جاهز لتبرئة الفن من النوازع والأهواء أجد أن هذا النوع متورط لدرجة أكبر، وفي الذهن أعمال إحسان عبد القدوس ومنها “الرصاصة لا تزال في جيبي”. فقد ساوت ما بين التفسير الميلودرامي للجسد مع الدعاية السطحية للدولة، وأدى ذلك لتحويل أدبيات التحرير إلى أدب عن اغتصاب الأساليب والمعاني. وبلغة مباشرة كان حنا مينة مثل إحسان عبد القدوس يكتب للدولة وليس عن الحرب. ومثلهما كان خيري الذهبي يكتب عن النظام وسياسته وليس عن مآل الحرب وانعكاساتها على حياتنا النفسية. وأعتقد أن الظلمات التي غرق فيها أثناء الأسر هي مجرد تعبير تمثيلي عن الظلام السياسي والإيديولوجي الذي قطع رأس سوريا واستبدله بعقل هجين وبليد (والكلام دائما له).

سادسا وأخيرا كانت النوستالجيا لفلسطين تدفع الحبكة لدرجة الهاوية، وتخنق جهود التسوية، وكان الشوق لا يخلو من اللوعة لدرجة العصاب والمرض.